غزّة .. إحدى أقدم المدن على وجه الأرض: تاريخها الغنيّ في مهبّ الدمار

🏛️ غزّة… إحدى أقدم المدن على وجه الأرض: تاريخها الغنيّ في مهبّ الدمار

بقلم: وليم دالريمبل – صحيفة The Guardian البريطانية

تاريخ النشر: الجمعة 17 أكتوبر 2025

مع سريان وقف إطلاق النار وعودة قدرٍ من الهدوء إلى المشهد الذي يشبه مدينة دريسدن بعد الحرب، حان الوقت لتقييم ما فُقد. إن الكلفة البشرية لما وصفته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بـ"الإبادة الجماعية" لا يمكن تقديرها، غير أن القليلين يدركون حجم ما طاله الدمار من تاريخٍ عريقٍ وآثارٍ إنسانية لا تقدّر بثمن.

كثيرون في الغرب ما زالوا يظنون أن غزّة ليست سوى مخيّمٍ ضخمٍ للاجئين بُني حديثًا فوق رمالٍ صحراوية، لكن الحقيقة مغايرة تمامًا. فغزّة هي إحدى أقدم المراكز الحضرية على الكوكب، مأهولة منذ آلاف السنين، وكانت عبر التاريخ ملتقى القارات ومعبراً بين البحر المتوسط والصحراء.

جذور تمتدّ إلى فجر التاريخ

يشير الكاتب إلى أنّ اسم "فلسطين" من أقدم الأسماء المعروفة في التاريخ البشري، وقد ورد في النصوص المصرية القديمة منذ عام 1450 قبل الميلاد باسم بيلست، وفي النقوش الآشورية باسم بالاشتو، ثم في كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد باسم پالاِستينا.

ويذكر دالريمبل أن غزة كانت منذ عهد تحتمس الثالث هدفًا استراتيجيًا في الحروب المصرية القديمة، وظلّت على مدار أربعة آلاف عام ميداناً للتنافس بين الإمبراطوريات لما لها من موقعٍ يربط آسيا بإفريقيا والبحر بالبرّ، فضلاً عن كونها ميناءً تجاريًا غنيًا ازدهر فيه تصدير البخور والعطور والنبيذ إلى الإمبراطورية الرومانية واليونانية.

 

غزّة... بوّابة الحضارات

ويقول الكاتب: «كلّ قوّةٍ حكمت الشرق الأوسط كانت ترغب في امتلاك غزة والسيطرة عليها».

فقد تعاقب عليها المصريون، الآشوريون، البابليون، الفرس، الإغريق، الرومان، الأمويون، المماليك، العثمانيون والبريطانيون. وعلى الرغم من كثرة الغزاة، ظلّ سكانها الأصليون موجودين جيلاً بعد جيل، تتبدّل ألسنتهم ودياناتهم، لكن جذورهم في الأرض باقية.

وتُظهر الأبحاث الجينية الحديثة – كما يشير المقال – أن التركيبة الوراثية لسكان فلسطين الحاليين تكاد تطابق تركيبة شعوب العصر البرونزي التي سكنت المنطقة، ما يؤكد عمق الارتباط التاريخي بين الإنسان والأرض.

 

مركز ديني وثقافي منذ القرون الأولى

ويستعرض الكاتب كيف كانت غزّة معروفة في القرون المسيحية الأولى بأنها مركزٌ روحيّ مزدهر، إذ احتضنت أوائل الأديرة في فلسطين مثل دير القديس هيلاريون في دير البلح، الذي جلب إليه رهبانٌ مصريون الحركة الرهبانية إلى المشرق. كما بنت الإمبراطورة يودوكسيا في القرن الخامس الميلادي كاتدرائية ضخمة في غزة، ثم شُيّدت كنيسة القديس سرجيوس في القرن السادس.

 

من الفتح العربي إلى العهد العثماني

ويشير المقال إلى أن الفتح العربي الإسلامي لم يكن نقطة انهيار حضاري كما يُصوَّر أحيانًا، بل جاء تدريجيًا؛ إذ واصل الإداريون اليونانيون والمسيحيون عملهم في الدواوين لسنواتٍ طويلة بعد الفتح، واستمرّت غزة مركزًا إداريًا مزدهرًا، قبل أن تصبح جزءًا من العالم العربي الإسلامي.

وفي العصور اللاحقة، ازدهرت المدينة تحت حكم المماليك الذين شيّدوا فيها الخانات والمساجد الجميلة، ثم استمرّ دورها الحيوي في العهد العثماني رغم انتقال النشاط التجاري الرئيسي إلى يافا وعكّا.

 

غزّة في القرن العشرين

كانت غزة ساحةً لمعركةٍ كبرى في الحرب العالمية الأولى، حيث تصدّى الجيش العثماني للقوات البريطانية والأنزاك حتى معركة غزة الثالثة في نوفمبر 1917، التي أعقبها إعلان وعد بلفور المشؤوم. ومع نهاية عام 1948، أصبحت غزة ملاذًا لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين هجّرتهم النكبة.

 

حضارة تُمحى من الذاكرة

يختتم الكاتب مقاله بأسفٍ عميق على ضياع هذا الإرث الإنساني، قائلاً:

«رغم أن غزة تتصدر نشرات الأخبار اليوم لأبشع الأسباب، فإننا نكاد لا نعرف عنها شيئاً. إن فهم تاريخها الطويل ليس ترفاً ثقافياً، بل ضرورة لفهم حاضرها المأساوي.»

ويشير إلى أن متحف Institut du Monde Arabe في باريس يعرض حالياً مجموعة من القطع الأثرية التي تم إنقاذها من غزة تحت عنوان:

"كنوز منقذة من غزة: خمسة آلاف عام من التاريخ"، مؤكدًا أن هذا المعرض، إلى جانب الكتب الحديثة عن تاريخ غزة، يشكّل دعوةً مفتوحة للعالم كي يعيد اكتشاف المدينة التي كانت يوماً درّة المتوسط وبوابة الحضارات.

لقراءة المقالة الأصلية يرجى الضغط هنا